ملوثات المياه: الأزمة الخفية

water_pollution.jpg

كيس بلاستيكي أحادي الاستخدام يطفو بجانب شعاب مرجانية في بالي. (الصورة من: ن بيرتولت جنسن / Ocean Image Bank)

إنَّ الماء عنصر أساسي للأمن الغذائي والصحة البشرية والتنمية الاقتصادية. ولكن مع نمو عدد السكان واشتداد تغير المناخ، يتزايد التلوث طوال مراحل الدورة الهيدرولوجية.

وتأتي ملوثات المياه في أشكال عديدة، وغالبا ما تكون خفية. ومن بين أكثر الملوثات شيوعاً الأسمدة والمواد البلاستيكية والصرف الصحي والمستحضرات الصيدلانية والهرمونات والمواد الكيميائية الصناعية والبتروكيماويات والمعادن الثقيلة والصرف التعديني.

وتتمثل إحدى العقبات الرئيسية أمام البلدان التي تسعى إلى تحسين جودة المياه في نقص البيانات عن مواردها المائية. ومن شأن التقنيات النووية والنظيرية أن تساعدنا على فهم مصدر تلوث المياه وتوفير حلول مدعومة علميا للتخفيف من صعوبة هذا التحدي.

مشكلة النيتروجين

النيتروجين هو مصدر رئيسي لتلوث المياه، مع ما قد يترتب على ذلك من آثار خطيرة على الصحة البشرية والبيئة. وتشمل المصادر الرئيسية للتلوث بالنتروجين الأسمدة ومياه الصرف الصحي والتصريفات الصناعية. وفي حين أن الأسمدة النيتروجينية عززت إنتاج الأغذية على مدى القرن الماضي، فإن حوالي 80% منها يفقد في البيئة.

وقال السيد يوانيس ماتياتوس، الأخصائي في الهيدرولوجيا النظيرية في المركز اليوناني للبحوث البحرية في اليونان: "يشكل التلوث بالنيتروجين، وخاصة بالنترات، تهديدا كبيرا للأنهار والبحيرات والمياه الجوفية والمياه الساحلية." وأضاف: "إن تتبع مصدر التلوث بالنترات عامل ضروري لحماية النظم المائية وتوجيه الجهود نحو تنظيف المناطق الملوثة."

والنترات هي أكثر أشكال النيتروجين قابلية للذوبان، مما يعني إمكانية تسربها بسهولة إلى المياه الجوفية والبحيرات والأنهار. وإذا تركزت النترات في مياه الشرب، فإنها يمكن أن تؤدي إلى إضعاف قدرة الدم على نقل الأكسجين في جميع أنحاء الجسم. ويتسبب التلوث بالنيتروجين أيضا في إثراء المياه بالمغذيات بشكل مفرط، مما يؤدي إلى نمو الطحالب الضارة ونمو النباتات في البحيرات والأنهار. ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، يمثل التلوث بالنيتروجين أكبر محرك لفقدان التنوع البيولوجي بعد تدمير الموائل وانبعاثات غازات الدفيئة.

ويزيد تغير المناخ من تفاقم تأثير التلوث بالنتروجين. ويسبِّب ارتفاع درجة حرارة مناخ الأرض المزيد من حرائق الغابات، مما يؤدي إلى زيادة استخدام مثبطات الحريق التي تحتوي على كميات كبيرة من المركبات القائمة على النيتروجين التي تتسرب إلى مصادر المياه. وفي الوقت نفسه، ترتفع درجة حرارة البحيرات والأنهار مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، مما يفاقم نمو أنواع النباتات التي يمكن أن تضر بالنظم الإيكولوجية والبيئة. ويمكن أن ينبعث أكسيد النيتروز من البحيرات الأعلى حرارة التي تكون مليئة بالطحالب، وهو غاز من غازات الدفيئة، في حين تزيل البحيرات الأكثر برودة النيتروجين من دورة النيتروجين وتُخزنه على مدى فترات طويلة.

فك شفرة التلوث بالنيتروجين من خلال التحليل النظيري

تستخدم الوكالة تقنيات نظيرية للمساعدة في تحديد مصادر التلوث بالنيتروجين. وفي إطار هذا البحث، عملت الوكالة مع جامعة ماساتشوستس على  وضع أساليب أرخص سعرا وأكثر أمانا وأسرع وتيرة لتتبع أصل التلوث بالنيتروجين في الأنهار والبحيرات والبحار.

وقال السيد ماتياتوس: "تمثل تقنيات نظائر النترات أداة قوية لأنها تساعدنا على تحديد مصادر التلوث بالنترات وفهم كيفية استخدام النيتروجين وتحوله في الطبيعة."

وتساعد الوكالة البلدان، من خلال برنامجها للتعاون التقني، على بناء قدراتها في مجال التقنيات النظيرية لدراسة التلوث بالنيتروجين في كل مكان من جبال الألب الإيطالية — حيث تصبُّ المياه الجليدية الذائبة في البحيرات القريبة — إلى مدينة كولكاتا الكبرى في الهند.

وتستخدم الوكالة أيضا التقنيات النظيرية والنووية لمساعدة البلدان على استخدام الأسمدة بكفاءة أكبر، وتعزيز احتجاز الكربون والنيتروجين في النظم الإيكلوجية الزراعية، وبحث الكيفية التي يمكن بها لمحاصيل البقوليات، أو النظم المتكاملة بين المحاصيل والثروة الحيوانية، أن تقلل من الحاجة إلى الأسمدة الكيميائية.

مركَّبات مثيرة لقلق ناشئ

هناك ملوثات تُكتَشف أكثر فأكثر في نظم المياه السطحية، ومنها المستحضرات الصيدلانية والهرمونات والمواد الكيميائية الصناعية ومنتجات العناية الشخصية. وتنشأ هذه الملوثات عادة في مياه الصرف الصحي البلدية والصناعية والمنزلية. وتعرف هذه العناصر باسم "المركَّبات المثيرة لقلق ناشئ"، ولم يُحدّد إلا مؤخرا أنها تمثل تهديدات محتملة للبيئة ولا تنظمها القوانين الوطنية أو الدولية على نطاق واسع بعد. وآثار هذه المركَّبات التي تكون في المياه العذبة ليست مفهومة جيدا، ولكن يُعتقد أنها قد تعطل الهرمونات وتساهم في مقاومة المضادات الحيوية في البشر والحيوانات وتؤثر سلبا في النظم الإيكولوجية المائية.

غير أنَّه يمكن استخدام المركَّبات المثيرة لقلق ناشئ من أجل فهم مصادر التلوث بالنترات بشكل أفضل لأنها تحدث معا في نظم المياه الملوثة. وتعمل الوكالة مع العلماء في جميع أنحاء العالم لتتبع مصادر ومسارات التلوث بالنترات في المياه السطحية والجوفية عن طريق ربط نظائر النترات بهذه المركَّبات.

وقالت السيدة يوليا فيستافنا، الأخصائية في الهيدرولوجيا النظيرية في الوكالة: "المركبات المثيرة لشواغل ناشئة هي مقتفيات مثالية للتلوث البرازي، لأنها ترتبط عادة بمصدر محدد ويمكن كشفها في العينات البيئية الملوثة."

استخدام التكنولوجيا الإشعاعية لمعالجة مياه الصرف الصحي

تكتسي إزالة الملوثات الدقيقة مثل المواد البلاسيكية الدقيقة والملوثات العضوية الثابتة والمستحضرات الصيدلانية من مياه الصرف الصحي أهمية حاسمة في تحقيق توفير المياه النظيفة والحفاظ عليها. وتؤدي التكنولوجيا الإشعاعية، بما في ذلك الحزم الإشعاعية الإلكترونية والتشعيع بأشعة غاما، دورا هاما في مكافحة طائفة واسعة من الملوثات العضوية في مياه الصرف الصحي وحمأة المجاري عن طريق تفتيت هذه الجزيئات المعقدة إلى أشكال أقل ضررا أو أكثر قابلية للإزالة.

وتشكل المواد البلاستيكية الدقيقة تحديا مستعصيا بشكل خاص لأنها تقاوم التحلل البيولوجي وتميل إلى التفتت إلى جزيئات أصغر.

وقد عُثر على المواد البلاستيكية الدقيقة في مياه الصنابير والمياه المعبأة، والهواء الذي نتنفسه، ورواسب الأنهار والتربة. فهي تلوث المياه الجوفية والسطحية وينتهي بها المطاف في المحيط. فقد خَلُصت عملية رصد التلوث بالمواد البلاستيكية التي أُجريت في إطار مبادرة الوكالة بشأن استخدام التكنولوجيا النووية لمكافحة التلوث بالمواد البلاستيكية (مبادرة نيوتيك للمواد البلاستيكية) إلى وجود مواد بلاستيكية دقيقة حتى في أكثر مناطق الكوكب نقاء وحماية، بما في ذلك جزر غالاباغوسو وأنتاركتيكا

وتقدم معالجة مياه الصرف الصحي باستخدام تكنولوجيا الحزم الإشعاعية الإلكترونية حلا واعدا. فهي تتيح تجميع المواد البلاستيكية الدقيقة في كتل يمكن إزالتها بسهولة من مياه الصرف الصحي. وتبين تجارب أجريت مؤخرا في معهد الكيمياء والتكنولوجيا النوويتين في بولندا، وهو مركز متعاون مع الوكالة في مجال التكنولوجيا الإشعاعية، إمكانية عزل ما بين 85% و95% من المواد البلاستيكية الدقيقة عن مياه الصرف الصحي بعد معالجتها بتكنولوجيا الحزم الإشعاعية الإلكترونية.

وقال السيد بومسو هان، الخبير في الإشعاعات وكبير المستشارين في شركة برايت فيوتشر تكنولوجيز في جمهورية كوريا: "من الصعب إزالة المواد البلاستيكية الدقيقة باستخدام الطرق التقليدية لمعالجة المياه ومياه الصرف الصحي." وأضاف: "رغم أن البحث لا يزال في مراحله المبكرة، من المتوقع أن تساهم الدراسات الجارية مساهمةً كبيرةً في معالجة التلوث بالمواد البلاستيكية الدقيقة في بيئتنا."

مبادرة نيوتيك للمواد البلاستيكية: مكافحة التلوث بالمواد البلاستيكية

تجمع المبادة الرائدة لمكافحة التلوث بالمواد البلاستيكية التي أطلقتها الوكالة بين البلدان والشركاء في جميع أنحاء العالم بهدف التصدي للتلوث بالمواد البلاستيكية عن طريق تسخير التكنولوجيات النووية لتحسين الكشف عن المواد البلاستيكية الدقيقة والمواد البلاستيكية النانوية وتحديدها في البيئة البحرية، ولتطوير تقنيات فعالة لإعادة تدوير المواد البلاستيكية تقلل من الاعتماد على المواد البلاستيكية القائمة على الوقود الأحفوري. ويمكن استخدام الإشعاعات لصنع مواد بلاستيكية حيوية، وهي بديل أكثر استدامة من المواد البلاستيكية التقليدية، لأنها قابلة للتحلل البيولوجي و/أو يمكن إعادة تدويرها بسهولة حسب التصميم.

ويحرص العديد من البلدان على الانتقال نحو اقتصاد أكثر استدامة بشأن المواد البلاستيكية. وفي مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات لعام 2025، حيث ركز المشاركون على المفاوضات الجارية للتوصل إلى اتفاق دولي ملزم قانونا بشأن التلوث بالمواد البلاستيكية، سلطت الوكالة الضوء على دور العلوم النووية في التصدي لهذا التحدي.

وقال المدير العام للوكالة، السيد رافائيل ماريانو غروسي، في المؤتمر "إنَّ العلوم النووية تساعد على حماية محيطاتنا وتدعم الحياة تحت الماء". وأضاف قائلاً: "من خلال مختبراتنا البحرية في موناكو ومبادرة نيوتيك للمواد البلاستيكية، نساعد البلدان في التصدي للتلوث البحري من خلال تجهيز أكثر من 100 مختبر في جميع أنحاء العالم لرصد المواد البلاستيكية الدقيقة."

وينشأ حوالي 80% من التلوث البحري بالمواد البلاستيكية على الأرض، لذا فإن تكثيف الجهود لتحسين إعادة تدوير النفايات البلاستيكية ومعالجتها قبل أن ينتهي بها المطاف في مواقع طمر النفايات ونظم المياه، من شأنه أن يساعد على مواجهة هذا التحدي العالمي المتزايد. 

استخدام المستنقعات الاصطناعية لاستصلاح مياه الصرف الناتجة عن التعدين

أثبتت المستنقعات الطبيعية — التي يحدث فيها ترشيح المياه العذبة نتيجة للعمليات الفيزيائية والجيوكيميائية والبيولوجية في التربة والرواسب والنباتات — فعاليتها في عزل الملوثات من المياه الملوثة. وتستخدم المستنقعات الاصطناعية — وهي نُظم هندسية تستخدم بالفعل هذه العمليات الطبيعية نفسها — لمعالجة مياه الصرف الصحي في جميع أنحاء العالم. وعادة ما تكون أقل تكلفة وأقل استهلاكا للطاقة في التشغيل والصيانة مقارنة بالنُظم التقليدية لمعالجة النفايات.

ويتزايد استخدام المستنقعات الاصطناعية لاستصلاح المياه الملوثة بالنواتج الثانوية للتعدين مثل المعادن الثقيلة والعناصر السامة الأخرى. ويمكن أن تستمر هذه النواتج لعقود بعد توقف التعدين، مع ما قد يترتب على ذلك من آثار خطيرة على الصحة البشرية والنظم الإيكولوجية المحيطة.

وعند تعدين اليورانيوم، غالبا ما توجد ملوثات مشعة طبيعية في مياه الصرف الصحي مثل الرادون والراديوم. ووفقا للسيدة هانا أفوم، الخبيرة في التكنولوجيا الصناعية في الوكالة، "هناك فجوة بحثية في مدى فعالية النباتات والرواسب في إزالة الملوثات المشعة في المستنقعات الاصطناعية."

وللمساعدة على سد هذه الفجوة، أطلقت الوكالة مؤخرا مشروعا بحثيا منسقا يستخدم المقتفيات الإشعاعية لدراسة الكيفية التي تنجح فيها التربة والحصى والنباتات في المستنقعات الاصطناعية من إزالة وتحويل الملوثات في مياه الصرف الصحي الناتجة عن تعدين اليورانيوم والنحاس والذهب. وبالنظر إلى احتمال أن تنخفض قدرة المستنقعات الاصطناعية على أداء هذا الدور بمرور الوقت، سيضطلع المشروع أيضا بدراسة الديناميكيات المائية للتدفقات وسيقوم بجمع البيانات لتحسين تصاميم المستنقعات المستقبلية.

وقال السيد أفوم: "يمكن أن تمنحنا البحوث المركزة رؤى حاسمة لتوجيه التصاميم المستدامة لهذه النظم وتحسين عزل الملوثات على المدى الطويل."

وتتعرض نظم المياه في العالم لضغوط متزايدة بسبب النيتروجين والمركبات المثيرة لشواغل ناشئة، والمواد البلاستيكية الدقيقة والمعادن الثقيلة. وتقدم العلوم النووية حلولا لمواجهة هذا التحدي.

ar_water_pollution_sources.png